الله دائماً مصدر الحياة والحكمة العليا التي تفوق كل إدراك ؛ وليس في حاجة لأحد من خلائقه ليُعبَّر عن الحياة التي فيه ، فهو قبل الخليقة بل قبل خلق الملائكة ، كان يحوي الحياة في ذاته ، وهذه الحياة تظهر في العلاقة الوثيقة مع كلمته الأزلي ...
الله لا يعوزه شيء لأنه كامل في ذاته كمال مطلق لا يُدرك أو يقدر على وصفه أحد ، لأن طبعه يفوق الخلائق أكثر مما نظن أو نتصور أو نعتقد !!!
وبالرغم من كمال الله المطلّق في ذاته ، قد خلقنا نحن البشر بكلمته بسبب حبه المتسع غير المدرك ، فهو لم يخلقنا فقط وجعلنا موجودين وجود مبني على الوجود في حد ذاته ، بل أقام لنا حياة شركة معه في جو المحبة الرائع ، كمحب لنا ونحن المحبوبون لديه ، فصار وجودنا كله مبني على شركة في حياة الله ، فنحيا من حياته ونتنسم نسائم الحياة من روحه القدوس ، ونشبع شبع المحبة من كلمته ، فتكون شركتنا قائمة على تيار حب متبادل لا ينقطع بل يزيد كل يوم على قدر استيعابنا وانفتاحنا على هذا الحب الفائق كل وصف وحدود نعرفها أو نُدركها !!!
وهذه هي روعة الخلق المبنية على الشركة في جو المحبة !!!
وحينما سقطنا لم تتوقف محبة الله ، بل أشفق علينا بمحبة صارت في أتساع أكبر حسب ما عرفناها في ورطة سقوطنا المخيف ...
وما أعجب محبة الله لنا نحن البشرّ ، إذ أراد أن يرجعنا إليه وإلى حياة الشركة التي انقطعت بسبب انفصلنا بارتكابنا جريمة قتل أنفسنا ، وصار كل واحد منا كإنسان مجنون طعن نفسه بأوجاع الخطية فتسلط علينا الموت وساد ، فسقطنا وكان سقوطنا مراً ...
والله بالطبع لم يكن يحتاج لشيء أو لإنسان أو لأي مخلوق مهما على سمو خلقه لكي بواسطته يرجعنا إليه ، لكنه رد لنا حياته بتجسد الكلمة
فإذ حلَّ فينا الكلمة بالتجسد ، فإنما ليحمل ضعفنا ويُلبسنا ثوب قوته .
الله يُريدنا أن نحيا حياته ، لذلك توشح الكلمة بجسدنا ليحمل الموت الذي أمسك بنا ، فإذ حاول الموت أن يمسكه هو الذي امسكه بقوة حياته ومجد لاهوته ، فكسر شوكته بالجسد الذي سكنه بالإتحاد غير المفترق الذي وحده مع لاهوته بغير امتزاج ولا اختلاط ولا تغيير ، وبقيامته أوصل لنا حياته الفريدة التي تفوق الموت ، فقد افرغ الموت من سلطانه وصار لنا قيامة لا تعرف موت أو ظلمة القبر :
" أين شوكتك يا موت أين غلبتك يا هاوية " (1كو 15 : 55)
وقد أعطانا الروح القدس كواسطة لنقل حياته فينا :
[ بدون الروح القدس فنحن غرباء وبُعداء عن الله ، وبشركة الروح فنحن متحدون باللاهوتية ] ( القديس أثناسيوس الرسولي ضد الأريوسيين 3 : 24 )
+ في جسد المسيح الواحد ، الكلمة المتجسد ، الذي اتحد بنا اتحاد حقيقي بلا أي ازدواج أو ثنائية أو تشويش ، كلنا كنا ممثلين فيه لأنه من ذات الطبيعة البشرية التي ننتمي نحن جميعاً إليها ، فهناك علاقة سرية وطيدة بين جسد المسيح وبين البشرية كلها :
[ لأن كل ما كُتب عن مخلصنا بشرياً ، فهذا يؤخذ على أنه يخص عموم جنس البشر ، لأن ذاك حمل جسدنا وعرض في نفسه الضعف البشري ] ( القديس أثناسيوس الرسولي في الدفاع عن هروبه 13 )
يا أحباء الله المُخلَّصين بخلاص غير مصنوع بيد إنسان ، بل بدم عهد قدم بروح أزلي ليطهر ضمائرنا ، دم ابن الله الذي اتحد بنا اتحاد غير قابل للافتراق :
فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي (عب 9 : 14)
فلنفرح معاً ونبتهج إذ قد صرنا هياكل مصنوعة بيد خالقنا ، مكرسة ومخصصه له وحده ، فصرنا أبناء الله في الابن الوحيد وبسبب نسبنا إليه :
[ بسبب قرابتنا ( نسبنا ) بجسده ، فقد صرنا نحن أيضاً هيكل الله ، وقد جُعلنا لذلك أبناء الله ، حتى إن الله صار معبوداً فينا الآن ، والناظرون يشهدون ، كما قال الرسول : " إن الله بالحقيقة فيكم " ( 1كو14: 25 ) ... وفي رسالة يوحنا يكتب " بهذا نعرف أنه يمكث فينا بروحه الذي وهبه لنا " ( 1يو3: 24 ) ] ( القديس أثناسيوس الرسولي ضد الأريوسيين 1: 43 )
يقول القديس أثناسيوس موضحاً سبب صيرورتنا أبناء لله قائلاً :
[ لأنهم لا يستطيعون أن يصيروا أبناء بسبب كونهم بالطبيعة مخلوقات ، ما لم ينالوا روح الابن الحقيقي الكائن بالطبيعة .
لذلك ولكي يصير هذا فإن " الكلمة صار جسداً " ، لكي يجعل الإنسان مستقبلاً للاهوتية .
نحن لا نكون أبناء بالطبيعة ، بل الابن الذي فينا ؛ والله لا يكون أبانا بالطبيعة ، بل أب الكلمة الذي فينــــــــــــا ؛ هذا الذي فيه وبسببه نصرخ : آبـــــــا أيها الآب .
وكما الأمر هكذا ، كذلك الآب ، فالذين يرى هو فيهم ابنــــــــــــه ، فهؤلاء يدعوهم أبنــــــــــــاء . ] ( ضد الأريوسيين 2: 59 )
يا لروعة سرّ الخلاص ، ويا لممجد الأسمى الذي نلناه
فيحق لنا اليوم أن نسبح مع العذراء القديسة مريم
تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي
لأنه صنع بي عجائب وأسمه قدوس
له المجد إلى الأبد آمين
+