لم يعرف التاريخ سؤالاً أهمّ من هذا السؤال، ولا أبعد منه أثراً. إنّه سؤال العصور كلّها منذ أن وُجد الإنسان إلى يومنا هذا. وسيبقى هكذا ما بقي الزمان. وهذا السؤال يطرحه القلب البشريّ محاطاً بالتوق إلى معرفةٍ يأمل أن يجد فيها النور والاشراق والسعادة وشبع السرور في عالم مليء بالمآسي والأحزان. ولعلّه السؤال الأهمّ الواجب الإجابة عليه قبل مناقشة الإيمان نفسه.
ثلاثة مواقف من الله
أمّا أجوبة الناس على مختلف ميولهم ومذاهبهم فيمكن حصرها في ثلاثة:
أ-جواب الملحدين: هؤلاء يقولون إنّ الله غير موجود. وقد نعتهم الكتاب المقدّس بالجهلاء، إذ يقول »قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: »لَيْسَ إِلهٌ« (مزمور 14:1). وقد وُصفوا بالجهالة لأنّهم يستندون في إلحادهم إلى حجّة سلبيّة، قوامها إنكار الأشياء، دون أن يقدّموا مبرّراً معقولاً أو سنداً واضحاً. ولا نعرف أنّ أحداً منهم حاول أن يبرّر عدم إيمانه بالله تبريراً إيجابيّاً معقولاً.
ب-جواب اللا أدريّين: هؤلاء يقفون في الوسط بين الإلحاد والإيمان، دون أن يقطعوا بهذا أو ذاك. ومصيبتهم أنّ ضباب الشكّ يغشى قلوبهم، وأنّ عواطفهم شُحنت بالقلق والاضطراب. ولعلّهم في فقدهم دوافع الإيمان صاروا أقرب إلى الإلحاد منهم إلى الإيمان. قال بعضهم إنّ الديانة في كلّ أبوابها لغز لا يُحَلّ وسِرّ لا يُكشَف. وجلّ ما نحصل عليه بالبحث في الدين هو شكّ وعدم تأكيد! ويقيناً أنّ اللاأدريّة عقم في التفكير، ينزل بالإنسان إلى درجة مؤسفة من الجهل. لأنّها تقتل فيه الشعور بالمسؤوليّة والكرامة، وتجعله في حالة إحجام عن مواجهة الأمور التي تتطلّب الإيمان.
ج-جواب المؤمنين: هؤلاء يعلنون إيمانهم بوجود الله، وإنّما لا يُخضِعون إيمانهم للتحليل المادّيّ أو العقليّ أو الحسّيّ، لأنّ الله الذي يؤمنون به روح ولا يمكن إدراكه بالعقل أو الحسّ، لأنّه لو أُدرك الله بالمحسوسات لأصبحت المحسوسات أعظم من ذاته الإلهيّة. هذا أوّلاً. وثانياً لو استطاعت الحواس أن تدركه لانتفت كلمة »إيمان« من معاجم اللغة، لأنّ الإيمان كما عرّفه بولس هو »الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالْإِيقَانُ بِأُمُورٍ لَا تُرَى« (عبرانيّين 11:1).
الأدلّة على وجود الله
قبل البدء بتقديم الأدلّة، يجب أن نضع في أفكارنا كحقيقة أوليّة أنّه لا ينبغي أن ننتظر دليلاً مادّيّاً على وجود الله. فالله غير منظور، والديانات السماويّة تعلّم بذلك. لذلك ليس من الحقّ في شيء أن نسأل مؤمناً أن يرينا الله لكي يثبت لنا وجوده فنؤمن به. كلّ ما ينبغي علينا أن نفهمه هو أنّ الإيمان بالله خير من عدم الإيمان. وقديماً قال أحد شعراء العرب الحكماء:
قال المعلّم والطبيب كلاهما أنْ لا إله، فقلت ذاك إليكما
إن صحّ ظنّكما فلستُ بخاسرٍ أو صحّ ظنّي فالوبال عليكما!
إليك في ما يلي بعض الأدلّة على وجود الله، والتي استطعت أن أجمعها من بعض المصادر.
وجود الكون:
من المسلّم به أنّ كلّ معلول لا بدّ له من علّة سابقة وكافية لإحداثه. فالكون أو العالم غير أزليّ، ولا هو كوّن نفسه. لذلك فهو معلول، أي له علّة خارجيّة عنه، كافية لإحداثه. وهذا بالطبع يستلزم الاعتراف بأنّ للعلّة وجوداً حقيقيّاً دائماً. فاللاشيء لا يمكنه أن يوجد شيئاً. والأدلّة على عدم أزليّة الكون متعدّدة نكتفي بذكر اثنتَين منها:
(أ)إنّ العالم على هيئته الحاضرة متغيّر باستمرار. وكلّ متغيّر مُحدَث، أي أنّ لديه بداية.
(ب)إنّ الانقلابات الجيولوجيّة التي توالت على العالم وأحدثت فيه تغييرات عظيمة وكثيرة تبيّن أنّه غير أزليّ. أمّا القول بأنّ الكون واجب الوجود فمخالف لحكم العقل السليم، لأنّ العالم مركّب من عناصر عديدة. وكلّ مركّب معلول أي حادث، وشهادة الاكتشافات الطبيعيّة الجديدة تبيّن أنّ العالم صنعته يد واحدة، لأن ما فيه من المخلوقات مركّب ومنظّم بقوّة عقل واحد، ممّا يؤكّد كلّ التأكيد وجود خالق عظيم هو علّة العلل.
هناك بعض أقوال علماء الجيولوجيا والطبيعة التي تبرهن أنّ الأرض التي نعيش عليها محدَثة:
(1)إنّ كلّ أنواع الحيوانات والنباتات المعروفة الآن حديثة العهد بالنسبة لمدّة وجود العالم.
(2)إنّ الموادّ الخالية من الحياة لا يمكن أن تولّد حياةً في نفسها ولا في غيرها. وإنّما الحياة وحدها تحدث الحياة. وفي تعبير آخر أنّه لا حيّ إلاّ من حيّ.
(3)لم يتبرهن بعد الفحص الكافي أنّ نوعاً من المخلوقات الحيّة استحال إلى آخر. فيلزم من هذا المبدأ أنّ لكلّ حيوان ونبات بداءة. وكلّ ما له بداءة فهو مخلوق، والمخلوق لا بدّ له من خالق.
علامات القصد في الكون:
هذا الدليل من أصدق الأدلّة على وجود الله. وصورته الإجماليّة، هي أنّ التنظيم يستلزم بالضرورة وجود منظّم نظّمه. والكون منتظم جدّاً لأنّ فيه يظهر حُسْن الترتيب والتركيب والقصد في كلّ شيء. ممّا يدلّ على وجود كائن عاقل قد نظّمه. وهذا الكائن هو الله.
الواقع أنّ علامات القصد في الكون تدلّ حتماً على وجود قاصد عاقل جدّاً، قادر أن يصنع كلّ شيء. ولذلك يجب التسليم بوجود خالق عاقل.
وقد تبيّن أنّ علامات القصد ظاهرة في الكون على حالات مختلفة، كالترتيب الدقيق في أنواع المخلوقات، وأجزاء كلّ شيء وفقاً لنواميس طبيعيّة محكمة ومرتبطة معاً، وارتقاء أحوال الخلائق بالتدرّج في سلّم النظام وموافقة البنية الآليّة لإتمام وظائفها ونموّها وتقدّمها، وموافقتها عند اكتمالها للغاية المقصودة من خلقها، وموافقة كلّ ما سبق لغايات أدبيّة في ذهن الخالق، الذي يستخدم خلائقه لتمجيد اسمه ولتربية مخلوقاته العاقلة الناطقة في الأدبيّات والروحيّات. فلولا القاصد الحكيم وتنظيمه العالم لعمّ التشويش الخليقة كلّها.
وعلامات القصد تظهر في أمور كثيرة منها:
(أ)علامات القصد في أعضاء الجسد: فليس عند البشر من المصنوعات ما يستحقّ أن يُقابَل بأعضاء جسد الإنسان في الكمال والدقّة والإتقان. فالعين مثلاً أكمل من جميع آلات النظر التي صُنعت، في مطابقتها لقوانين الضوء، لأنّ فيها عصباً منتشراً في شبكتها يشعر بالنور والألوان. ويدخل النور العين من الحدقة، وهذه تضيق إذا كثر وتتّسع إذا قلّ. وفعلها هذا ضروريّ لتعديل البصر وهو يعمل آليّاً دون خضوع للإرادة. مجرّد دخول النور من ثقب ما لا يكفي لرسم صور المرئيّات رسماً واضحاً، بل لا بدّ من مروره في بلّورة محدّبة لكي تنكسر أشعّته وتتجمّع في بؤرة. وهذان الشرطان متوفّران في العين.
ثمّ لو كان باطن العين أبيض، لانعكست أشعّة النور، وتشوّش البصر. فدفعاً لذلك، بُطِّنت العين ببطانة سوداء.
وفي العين فضلاً عن ذلك عضلات مخصوصة تحكمها لنظر ما هو قريب وما هو بعيد، بسرعة مدهشة. كلّ هذا يظهر حكمة الله الفائقة في إعداد الوسائط لنوال الغاية المقصودة على منوالٍ يفوق كلّ ما في أعمال البشر.
وكذلك الأذن، آلة عجيبة في كمالها. ففيها عصب السمع من الباطن، وآلة مموّجة اسمها الصماخ. هذه تحمل الموجات الهوائيّة إلى غشاء رقيق يُسمّى الطبلة. وهذا الغشاء يهتّز بتموّج الهواء. وداخلها عظيمات دقاق تنقل التموّجات إلى العصب السمعيّ، فينقلها هذا إلى عقدة السمع في الدماغ. ومن المعلوم أنّ معظم معاملات الناس تتمّ بواسطة هذه الآلة العجيبة، التي يتوقّف عليها السمع وتعلّم النطق.