الصلاة الربانية
كيف نحوِّلها إلى حياة؟
-2- تكلَّمنا
في الجزء السابق عن بعض عبارات الصلاة الربانية التي تُعتبر أكثر من
كونها نموذجاً للصلاة الكاملة، فهي إعلانٌ لنا عن كيف نعرف قلب الله وما
فيه من جهتنا. ونستكمل في هذا العدد باقي عبارات الصلاة الربانية، وذلك
لتتعرَّف على كيف تعيش الصلاة الربانية؟
7. خبزنا (كفافنا أو ”الذي للغد“، أي “الآتي“) أعْطِنا اليوم: والكلمة اليونانية المكتوبة في الإنجيل لوصف هذا الخبز تحتمل هذه المعاني الثلاثة. وكلها نافعة لكل واحد حسب قامته الروحية.
و”خبز الكفاف“ هو ما يطلبه كل إنسان، ابتداءً من الخفير إلى الوزير؛ أما الخبز
”الذي للغد“ أي
الخبز ”الآتي“ أي طعام الملكوت، فهما مرتبطان مع خبز الكفاف بعضهما بالبعض. الروحي مرتبط بالمادي بلا انفصال.
فكل
ما تعمله في المجال المادي له صلة بالمجال الروحي. فما من احتياج مادي
لك، إلاَّ ويرتبط باحتياج روحي بطريقة أو بأخرى. فاحتياجك للخبز المادي
مرتبط باحتياجك للغذاء الروحي. ومشاكلك التي تواجهها سواء كانت مالية أو
اجتماعية، سوف تجد لها حلولاً أفضل إن وقفتَ لتصلِّي طالباً تدخُّل الله،
أفضل مِمَّا لو واجهتها معتمداً على نفسك فقط. لأن كل نوع من أنواع الأنشطة
تعمله يمكن أن يتحوَّل إلى عمل روحي في خدمة الله، وليس فقط دراستك
للكتاب المقدس أو ذهابك للكنيسة. فإذا قدَّمتَ لقريبك مثقال ذرة من خدمة
كزيارة لمريض في المستشفى، فستحصد مثقال جبل من البركة الروحية. وبالعكس
إذا أسأتَ استخدام جسدك المادي، فسوف تحصد نتائج روحية سيئة.
لذلك حينما نتعلَّم أن نعتمد على القوة غير المحدودة لله أكثر من اعتمادنا على مجهوداتنا المحدودة؛ فسوف نقترب من الله أكثر فأكثر.
يمكنك
أن تلجأ إلى الله في كل ما تحتاجه: مادياً أو روحياً. ويا ليتك تتعوَّد
أن تعتمد على الله، كل يوم، بدلاً من أن تُجري أمورك معتمداً على ذراعك
وقوتك.
من الأمور التي يجب أن تتحاشاها، أن تحاول أن تكتفي بذاتك
وتطلب الحياة المريحة الهانئة لنفسك، بل قدِّم دائماً شكراً لله على أنه
يسدّ كل احتياجاتك حتى أنفاسك التي تتنفَّسها.
? تعوَّد أن تُبسِّط احتياجاتك وآمالك، مُركِّزاً على احتياجاتك الحقيقية (”خبزنا كفافنا“)، وليس المُغالَى فيها.
فإذا
قدَّمتَ لله سؤالك، اسأله أن يسدَّ احتياجاتك أنت وأسرتك، بل لتكن
مستعدّاً وجاهزاً أن تُشرك الآخرين فيما يُعطيك الله، وسيكون هذا الاستعداد
عاملاً هاماً في استجابة الله لصلواتك عمَّا تحتاج إليه.
8. واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا: لغة
المسيحي هي لغة المحبة، وبرهانها وعنوانها لغة المغفرة للآخرين. يظن بعض
المسيحيين اليوم (ذوي النزعات المتحررة غير المسيحية) أن عدم المغفرة
للآخرين، أي ردَّ الصاع صاعين أو بلغة العهد القديم ”عين بعين وسنٌّ
بسنٍّ“، هي التي ستمنع المُسيء عن الاستمرار في إساءته لك. وهذه حيلة
شيطانية في هذا الجيل، إذ يطمح الشيطان من ورائها أن يقضي على التقوى
المسيحية التي تأصَّلت في قلوب المسيحيين بالمغفرة لمضطهديهم والذين
يُسيئون إليهم، حتى ولو كانوا من أتباع الدين الآخر. ولكن تيقَّظ! فإن سلاح
المحبة ذا النصل الحاد للغفران هو الذي يكسر شوكة الشيطان. وبهذا تحفل
سِيَر القديسين باختبارات عن انكسار الشيطان أمام الغفران للآخرين
المسيئين. هذه حقيقة دامغة، فلا تنصت لغيرها.
? افصلْ تقديمك
المغفرة عن مشاعرك الشخصية حينما تكون ثائرة ملتهبة بسبب الإساءة. وثِقْ
أن الرب سوف يقويك، لأنه احتمل إساءات البشر إليه حينما كان متجسِّداً.
تأمل
في تصرُّف الرب أمام المسيئين والمستهزئين ثم الصالبين حيث طلب إلى الله
الآب وهو على الصليب رافعاً ذبيحته للغفران أن يغفر لهم جميعاً، وليس فقط
يغفر كتقديم فضيلة، بل كملتمس العذر لهم في إساءتهم لجلاله وهيبته
وقداسته، بقوله:
«لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لو 23: 34).
إن
هذه اللحظة - لحظة غفران المسيح لصالبيه بهذه الطريقة - كانت لحظة انكسار
الشيطان الذي استعبد العالم لنفسه ببث الكراهية والأحقاد والانتقام ما
أدَّى إلى الحروب والقتل بين الأفراد والشعوب والدول. وها هو يحاول اليوم
مع المسيحيين، رسل المحبة والغفران وسط العالم المتصارع بعضه مع البعض لكي
يثنيهم عن هذا الطريق، ولن يفلح.
? ولابد أن تعرف أن غفران
الإساءة لا يعني تبرير خطأ المُسيء أو الاعتراف به. إنه يعني فقط المسامحة
الشخصية على الإساءة. وفي الوقت نفسه، فإنه يُحرِّرك من المرارة التي
يمكن أن تُسمِّم نفسك وتؤذيها بالمشاعر السلبية.
? وبعكس ما يظن
الكثيرون، فإن المغفرة سوف تُشدِّد وتجدِّد نفسيتك، وتعطيك دفعة قوية وصحة
نفسية، لتتحرك مُطالِباً بحقِّك أو مُقدِّماً شكواك أو متصرِّفاً أي
تصرُّف يرشدك إليه الروح القدس الذي فيك؛ دون أن تتهوَّر أو تتسرَّع أو
تتصرَّف بنفس منهزمة، فتفقد سلامة وصواب طريقك. ولكن كل هذا بشرط أن يكون
غفرانك مؤسَّساً على نعمة الروح القدس الذي في داخلك، وليس عن إحساس بضعف
أو مذلَّة أو كأنك مغلوب على أمرك. هذا هو الغفران المسيحي، غفران الشجاعة
والمقدرة.
? وأعظم نتيجة لغفراننا للآخرين إساءاتهم، أن ننعم
بغفران الله لخطايانا. لذلك تقدَّمْ إلى الله ملتمساً غفران الله،
بالاعتراف بخطاياك، وبالثقة في دم المسيح المسفوك على الصليب الذي
«يُطهِّرنا من كل خطية» (1يو 1: 7). واشكر الله على صليب المسيح وفدائه عن
خطايانا أمام الله الآب، وتقديمنا إليه للدخول إلى عرش النعمة لنجد صفحاً
عن خطايانا وزلاَّتنا.
. 9 - ولا تُدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير: والتجربة هي حِيَل الشيطان التي يحاول بها أن يجد منفذاً من بين ضعفاتنا البشرية بسبب اللحم والدم الذي ما زلنا نئن تحت ثقله.
ويشرح القديس بولس معنى هذه التجارب بتصويره الشيطان أنه
”المشتكي“ على المؤمنين:
«مَن سيشتكي على مختاري الله؟ الله هو الذي يُبرِّر» (رو 8: 33). ويُصوِّر القديس يوحنا الرائي اندحار المشتكي في رؤياه هكذا:
«الآن
صار خلاص إلهنا وقدرته ومُلْكه وسلطان مسيحه، لأنه قد طُرِحَ المُشتكي
على إخوتنا، الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهاراً وليلاً. وهم غلبوه
بدم الخروف وبكلمة شهادتهم، ولم يُحِبُّوا حياتهم حتى الموت» (رؤ 12: 11،10). فهو يشتكي علينا حينما ينجح في تجاربه مستغلاً ضعفنا البشري، لكن المسيح يلحق ويُبرِّرنا ويشفع فينا:
«مَن هو الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات، بل بالحري قام أيضاً، الذي هو أيضاً عن يمين الله، الذي أيضاً يشفع فينا» (رو 8: 34).
? لذلك، فإن هذه الطلبة:
«لا تُدخِلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير»، تجد استجابتها الفورية في عمل شفاعة المسيح فينا أمام الآب. وقوة
شفاعة المسيح تظهر في أنه وهو الموكل أصلاً بدينونتنا على خطايانا، يصير
هو أيضاً مُحامينا وشفيعنا بجانب كونه قاضينا وديَّاننا. فما أقوى هذه
الطلبة وأكثرها استجابة!
? ولكن أيضاً، لا بد أن لا نجهل حِيَل
الشيطان(1) في إيقاعنا في الخطية من جهة ضعفاتنا البشرية. ولابد أيضاً أن
نسأل الله أن يُنجينا من كل خطية تضغط علينا: الغضب، الشهوة الرديئة،
الطمع، الحسد، المرارة والحقد، الكذب، وغيرها.
إن الله هو الكفيل
بل القادر أن يقوِّيك لتُقاوم الخطية. أما غلبتك على الخطية، فتكمن في
طاعتك لوصاياه، والانتباه لخلاصك ضد أية شهوة.
? ولكن ثِقْ في
الله وفي نعمة المسيح، لكي تكون إخفاقاتك مُحفِّزاً لك للنهوض والنمو أكثر
فأكثر في حياة القداسة. واحذر من أخطر إخفاق وهو:
الإخفاق في الإيمان. فلا تَدَع اليأس يدخل إلى قلبك، فالإيمان كفيل بأن يجعلك تتخطَّى كل إخفاق.
(
بالمسيح يسوع ربنا: ويؤكِّد هذا المقطع:
”بالمسيح يسوع ربنا“ في
هذه الطلبة، والتي أضافتها الكنيسة، على الإيمان بربنا يسوع المسيح كغالب
ومنتصر على كل تجارب الشيطان ضدنا، لحسابنا. وحسب أمر المسيح: «ومهما
سألتم باسمي فذلك أفعله، ليتمجَّد الآب بالابن. إن سألتم شيئاً باسمي فإني
أفعله» (يو 14: 14،13)، لذلك فكل ما نطلبه في الصلاة يكون باسمه حتى
تُستجاب الصلاة: «لكي يُعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي» (يو 15: 16)، «إن كل
ما طلبتم من الآب باسمي يُعطيكم. إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي. اطلبوا
تأخذوا، ليكون فرحكم كاملاً» (يو 16: 24،23).
10. لأن لك المُلْك والقوة والمجد: عند هذه الطلبة، على كل واحد منا أن يهجر ظنَّه أنه يملك حياته وسعْيَه للشهرة والقوة والمجد في هذا العالم.
المؤمن
يُركِّز كل جهوده على إعطاء المجد لله وحده. أما سعيك لتشييد مملكتك في
هذا العالم، فهو الذي يؤدِّي دائماً للصراعات والخصومات. لكن سعيك لإعلاء
مقاصد الله في حياتك هو الذي يقودك إلى اكتمال خلاصك وكمالك.
اعلم
أن العالم كله يدور ويتمركز حول الله، وليس حول نفسك! ففي النهاية سلطان
الله ومجده هما اللذان سيملكان! لكن سعيك نحو مجد نفسك قد يُعطيك - مؤقتاً -
شهرةً ونفوذاً بدون الله، لكنها بعد ذلك ستصير هباءً منثوراً في الهواء.
أما عبادة وخدمة الله، فلابد أن تؤدِّي بك في النهاية إلى العَظَمَة
الحقيقية الدائمة والباقية أمام الله. وأصغر خدمة وعبادة لله هي عظيمة إن
كانت تؤدَّى بالروح والحق.
11. آمـين: انطلق كل يوم من نُطقك بكلمة ”آمين“ لله. إنها تعني: ”نعم، موافق، ليكن لي كل شيء كما تشاء“.
انظر
إلى الله، متخطِّياً ما وراء ظروفك الشخصية، واخترْ أن تعيش بالإيمان في
كل موقف يعرض لك في حياتك، واثقاً في الله في نهاية الأمر.
ليكن
الرجاء في الله هو النور المخفي وراء الظروف القاسية وغير المواتية، ولكن
الذي تراه بعين الإيمان، فهو النور الذي يُريك أن وعود الله كلها صادقة ولن
تفشل أبداً.
ولله المجد دائماً في كل شيء. آمين. ?