--------------------------------------------------------------------------------
بعد مرور ثلاث سنوات علي دخولي الدير ، وصلني خبر نياحة والدتي ولم تكن قد زارتني طوال تلك الفترة إذ كان والدي يحضر بمفرده لزيارة الدير لأنه كان يتردد علي القاهرة بحكم ظروف تجارته ..
عندما وصلني هذا الخبر ، تذكرت كلامها قبل المجئ إلي الدير حين قالت لي : ' مش تستني دا أنا فاضل لي ثلاث سنين وحسا فر علي السما . . , فقلت لها: ' ربنا يخليك لعيالك وأنا لما أروح الدير في حياتك أحسن.. ,
وهنا أمرتني أنا الرئيسة بالذهاب لتعزية الأسرة ، فسافرت أنا وأمنا كيريا اسكندر في قطار تحرك من القاهرة في الساعة الرابعة بعد الظهر ، وقبل وصوله إلي أسيوط علمنا بوجود قطار مقلوب .. مما اضطر قطارنا إلي التوقف ونزول جميع الركاب منه، فكانوا يتسابقون في النزول ليلحقوا بقطار آخر كان علي مسافة بعيدة نسبياً..
كان الظلام حالكاً وبالطبع لم يكن معنا كبريت أو بطارية، فكنا نصلي ونطلب معونة ربنا.. فانتظرنا حتى يقل الزحام ونتمكن من النزول خاصة أن القطار قد توقف بعيداً عن الرصيف وعلينا أن نقفز مسافة طويلة ، وإذ بنا نجد أمامنا ضابطاً يسود ملامحه هدوء وروحانية وسلام وورع عجيب وقال لنا :
' يا أمهات ما تخافوش ربنا معاكم .. , قلنا له :
' ربنا معانا ومعاك .. , فقال لي : ' أديني أيدك علشان تنزلي السلم .، فرفضت وقدمت له الشكر وقفزت .. ثم قال لأمنا كيريا :
'أديني أيدك.. , فقالت : ' لا.. متشكرة .., ومسكت في أيدي وقفزت، ومن العجيب إننا لاحظنا نوراً ينبثق من هذا الضابط كأن كشافاً يخرج منه ينير السكة الحديد لمسافات طويلة.. وكنت أنا وأمنا كيريا نُسرع في السير للحاق بالقطار ، فقال لنا :
' ماتخافوش القطر مش حَ يقوم غير لما أنتم تركبوا فيه .. ،
وصلنا القطار وكانت عرباته مزدحمة جداً .. وجدنا عساكر جالسين فقاموا لأداء التحية للضابط ، فقال لهم :
' دول راهبات تعبانين . , فقالوا له : ' أمرك .. , فجلسنا وقدمنا له الشكر وطلبنا منه أن نتشرف بمعرفة أسمه، وأن يتفضل بزيارة الدير ليأخذ بركة الشهيد، فابتسم وقال: ' أنا أبو سيفين, وأختفي..
وتعجب جميع السامعين: الناس والعساكر...
قالت لي أمنا كيريا :
' الله يسامحك يا إيريني ما خلتهوش يمسك أيدك ليه ، كنت أخذت بركته .. , وكان جميع الركاب يسألون عن سيرة أبي سيفين، فمكثنا طول الطريق نحكي لهم سيرة الشهيد. شعرنا إننا لما نطلب ربنا يسوع المسيح من كل قلوبنا في ضيقتا ومشاكلنا الروحية والجسدية والنفسية، يستجيب ويرسل لنا الشهداء والقديسين أحباءه ولا يتركنا، بل يعطينا سلاماً.. قوة.. احتمالً وأجراً كبيراً في السماء.. لأنه محب للبشر ورحوم وحنيّن علي الخطاة .. يحب يجذبهم ويشدهم من أجل خلاص نفوسهم .. هو وحده الذي يشفق ويعطف علينا .. وليس لنا آخر سواه ولا شئ يفرحنا ولا يريحنا غير محبة ربنا ..
لما وصلنا بيت والدي، كل الناس قالوا لي: ' أنت السبب في وفاة والدتك.. , فكنت أقول : يعني يا رب أنا السبب في إن إخوتي يصبحوا يتامى .
ظلت أمنا الغالية تصلي وتبكي بشدة، فظهر لها شخص في هيئة نورانية له هيئة القديسين وأخذ يردد عليها آيات من الكتاب المقدس (لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم...)
وبالرغم من ذلك لم تشعر أمنا الغالية براحة أو سلام ..
وعندما سألته عن من يكون ، أخبرها بأنه أنطونيوس الكبير ..فقالت له : '' فين علامة مسيحك ، الصليب الذي تحمله ؟ ,, ورشمت عليه الصليب فتحول في الحال إلي دخان..
مكثت تماف ايريني الغالية في منزل أسرتها لمدة عام كانت تري والدتها يومياً فترشدها إلي كيفية التصرف في أي مشكلة تقابلها . ومن خلال ما حكته أمنا الغالية عما عاينته في هذه الفترة ، يتضح أن السماء قريبة جداً منا ، وتتأكد حقيقة إيماننا الأقدس عن الملكوت الذي أعده الله للذين يحبونه ومكافأ القديسين للذين عاشوا بالكمال في حياة مرضية أمام القدير .. لذلك هم يشعرون بنا لأنهم أكثر قرباً . فتقول تماف الغالية أن أحدي أخواتها لم تتعزي وكانت تبكي بكاءً مراًَ بعد انتقال والدتهم ، فأتت إليها وسقتها ماءً مصلياً فشربته .. فقامت من النوم فرحة متهللة ولم تعد تبكي بعد ذلك..
كما تحكي أيضاً عن شقيقة أخري كانت مريضة ، فرأت والدتها ساهرة بجوارها طول الليل تغطيها وتصلي لها . وفي مرة أخري كان الجو قارصاً ، وقع غطاء السرير عن إخوتها الصغار وعندما وضعته الأم چنيفياف عليهم ، استيقظ أحدهم وقال : '' كنت بردان وحلمت أن ماما غطتني . ,, كما سمح الله بتعزية كبيرة لأمنا الغالية برؤية مكانة والدتها الكبيرة في السماء ، فتقول :
في يوم أخذني ملاك إلي السماء ورأيت ما لم تره عين كقول معلمنا بولس الرسول .. لا أستطيع أن أصف ما شاهدت لأنه في الحقيقة أعظم من قدرتي بكثير .. رأيت والدتي ومعها واحدة زيها فقالت لها دي بنتي الراهبة اللي قلت عليها .. ومشيت معها في الفردوس رأيت خضرة جميلة .. شاهدت شبه أنهار وزهوراً جميلة جداً ، ونوراً بديعاً يملأ القلب فرحاً سماوياً لا ينطق به .. سألت والدتي عما إذا كانوا يعاينون الرب في الفردوس ، فأجابت ربنا معانا وبنشوفه .. وبنتمتع به .. وهو مالي كل مكان.. ,,
وبما أن أطمأنت أمنا الغالية علي أحوال الأسرة واستقرت أمورهم عادت إلي الدير بسلام .
عن كتاب:أمنا إيرينى جوهرة السماء ومنارة الرهبنة
+ إصدار : دير أبوسيفينللراهبات +