ويوم الأحد 9 تشرين الأول 1977 أعلن قداسة البابا نفسه شربل قديساً، فاتسع نطاق تكريمه كطوباوي محصوراً في كنيسته.
كبرى عجائب الأب شربل
إنها قصة شفاء عجيب منَّ به الله على الأخت ماري آبل قمري من راهبات القلبين الأقدسين بشفاعة الأب شريبل مخلوف. كانت الأخت ماري مبتلاة بأمراض وقف إزاءها الطب عاجزاً وقطع الأطباء الأمل في شفائها. ولمّا كانت على قيد شبرين من الموت رغبت في زيارة ضريح الراهب القديس الكائن في دير مار مارون عنايا فحقق الرؤساء رغبتها وهناك على ضريح الرجل البار تمت الأعجوبة. ونحن نسرد هنا تقرير الأخت ماري عن شفائها الخارق وقد صدقته بحرفه بخط يدها وإمضائها في 19 تموز 1950:
" أنا الأخت ماري آبل من راهبات القلبين الأقدسين عمري 37 سنة، ابنة رشيد القمري من أسرة فرحات، ونظيرة الخوري بطرس رزق من حمانا. دخلت جمعية القلبين الأقدسين بعمر ست عشرة سنة وذلك في 8 أيلول سنة 1929 في دير الابتداء في بكفيا. وكنت متمتعة بعافية تامة إلى سنة 1936، التي أصبت فيها بألم في معدتي وكنت اتقيأ كل ما أتناوله من المآكل. فعالجني أحد الأطباء ولم أستفد من علاجه لعد إصابته المرض، وظللت أقذف كل ما أتناوله نحواً من سبعة أشهر. وفي صيف سنة 1936 المذكورة صعدت إلى الجرد تبديلاً للهواء وأملاً بتحسن صحتي فكان الأمر عكس ما أردت فازدادت سوءاً يوم عن يوم، ففحصني الدكتور مراجل المصري المصطاف في حمانا، الاختصاصي بأمراض المعدة، فحكم بوجود قرحة كبيرة في معدتي وأشار عليَّ بالتصوير على الأشعة الكهربائية. فلما أخذت الصورة ظهرت فيها قرحة كبيرة كما قال فاستعملت علاجاً وصفه لي هذا الطبيب ولم أستفد منه. فنوجّهت عندئذٍ إلى الدكتور الياس البعقليني الجراح المشهور، فبعد أن تصوَّرت على الأشعة قرر غسل المعدة وتنظيفها مرات عديدة بواسطة نربيش ( Lavage d'estomac ) ثم أجرى لي عملاً جراحياً ظللت تحت مبضعه ساعتين ونصف ساعة. فوجد قرحة كبيرة في المعدة حتى أنَّ الكبد والمرارة والكلوة كانت كلها ملتصقة بعضها ببعض كأنها قطعة واحدة ولا تقوم بوظائفها. وأبقى قسماً من جرح العملية مفتوحاً لأجل التنظيف ومداواة القرحة. وبعد أن ختم الرجح رجعت إلى حالة القيء قبل العملية وأخذت حالتي تزداد سوءاً وخطراً، فقرر الأطباء الجراحون منهم والاختصاصيون بالأكراض الداخلية الاجماع معاً للمداواة في وضعي الحاضر، فأجمعوا على إجراء عملية ثانية خطرة استمرت أربع ساعات. وكانت النتيجة أسوأ من المرة الأولى لأنَّ الالتصاقات قد ازدادت، وصارت المصارين من الخارج ملتصقة بعضها ببعض ولم يستأصل الأطباء إلاّ قسماً من الالتصاقات خشية أن أموت، وكانت المرارة تفرز مادة أدفعها من فمي وهي التي سببت لي هذا " التراجع " الذي لازمني سنين عديدة ومن ذاك الحين ابتدأت مرحلة آلامي التي دامت نحواً من أربع عشرة سنة، وكنت من خلال الأربع السنين الأولى منها أقوى على السير في داخل الدير، ولم أكن أغتذي في هذه المدة نفسها إلاّ قليلاً لأنّي كنت أقذف كل مأكل أتناوله، وبسبب ذلك ضعف جسمي كثيراً وصرت أشعر بآلام حادة في كل عظام جسمي.
ومنذ سنة 1942 بدأت عوارض جديدة تنتابني، على أثرها شُلَت يدي اليمنى ومن سنة 1940 لازمت الفراش ليلاً ونهاراً، وكنت طوال هذه المدة لا أستطيع المشي إلاّ بالتوكأ على العصا وبمساعدة إحدى الراهبات لقطع مسافة مترين تفصلني عن الكنيسة لسماع القداس وزيارة القربان الأقدس. وبسبب شدة مرضي وكثرة المراجعة نخرت أسناني وتهرأت فالتزمت أن أقلعها. وفي خلال هذه العوارض الشديدة مُسحت بزيت المرضى ثلاث مرات لأني اوشكت على الخطر.
ولمّا كنت أسمع بعجائب رجل الله الأب شربل، أخذت بطلب شفاعته والتوسّل إليه وقلت له: " إذا أردت أن تشفيني دعني أراك في منامي " وفي ليلة هذا اليوم الذي طلبت فيه رأيته في الحلم واقفاً قرب سريري وباسطاً يديه فوقه. والمدهش هو أني شاهدت الأب شربل بحسب الصورة العجائبية الجديدة قبل أن أعرفها. ولمّا عُرضت عليَّ صورته راكعاً على طبق قلت لمن أروني إيّاه: ليس هذا الشخص الذي رأيته في الحلم. حتى أروني فيما بعد صورته التي ظهرت بنوع عجائبي فإذا هي صورة الشخص الذي ظهر لي في المنام. وحلمت أيضاً مرة ثانية: أني موجودة في معبد صغير وساجدة أمام المذبح أصلّي وإذا بالشموع أضاءت فجأة ورأيت الأب شربل راكعاً فرفع يده وباركني.
وفي صباح الثلاثاء الواقع في 11 تموز سنة 1950 تركتُ دير بكفيا الساعة العاشرة إلاّ ثلث وتوجهت إلى دير مار مارون عنايا برفقة الأخوات الراهبات: غيزابيل الغريّب رئيسة دير جبيل وبرندت نفّاع معلمة المبتدئات في دير بكفيا وماري متيلد زنبقة وليوننتين رحمة، وحُملت على كرسي إلى السيارة، وكان السفر متعباً عليَّ جداً لأني طوال الطريق كنت أتقيأ، فوصلت الدير بعناء شديد، فحملني هناك اثنان من رجال الصحية على كرسي وأنزلاني إلى قبر رجل الله الأب شربل، فرأيت حوله كثيراً من المرضى من عميان وخرس وعرج وأشلاء الخ. فرفعني الرجلان المذكوران على الكرسي حتى لمست بيدي بلاطة الضريح وقبلتها. وما كادت يداي تمس هذه البلاطة حتى شعرت كأنَّ تياراً (Courant ) يسري في سلسلة ظهري. ثمَّ أصعدوني إلى غرفة خاصة في الدير فيها سرير من " الرفّاس " لأرتاح قليلاً من تعب السفر، ثم أخذوني لزيارة تابوت الأب شربل القديم فصليت هناك مع بقية المرضى وأُرجعت إلى الغرفة للراحة.
وعند المساء طلبت من الأخت غيزابيل رئيسة دير جبيل أن أبيت ليلتي قرب الضريح فقالت لي: " إنَّ ازدحام المرضى عليه كثير فلا تستطيعين الرقاد، ففي غير هذه الليلة ترقدين " فقلت عندئذٍ في نفسي: " يا بونا شربل أنت راهب وأنا راهبة وأنت علم أنَّ الراهب ملتزم بالطاعة. إنّي راغبة في قضاء ليلة بالصلاة قرب ضريحك وأرى نفسي أني راقدة على سرير من رفاس في الغرفة المعطاة لي، فعليك إذاً أنت العمل". قلتُ وبتُّ تلك الليلة مع بعض الراهبات الباقيات في عنايا في الغرفة الموما إليها.
وفي صباح اليوم التالي أنزلوني محمولة على كرسي إلى الضريح حيث حضرت تلاوة ثلاثة قداديس، فصليت وتناولت القربان المقدّس. وفي خلال هذا الوقت بدأت أشعر باوجاع في رجليَّ، وبعد مرور نحو ثلاث ساعات عليَّ وأنا أصلّي، طلبوا إليَّ أن أغادر الضريح إلى غرفتي لتناول شيء من الطعام. وكان طعامي في الصباح فنجان قهوة إلى الظهر، فرفضت مغادرة الضريح قبل أن أُشفى. وبعد مرور نصف ساعة حضرت رجال الصحية وأخرجوا المرضى عن القبر لتطهير المكان، فحملني اثنان على كرسي إلى خارج الضريح، فأخذنا نصلي. ولمّا انتهوا من عمل التطهير حملني اثنان إلى القبر فقلت لهما:" أشكركما على صنيعكما معي، وإن شاء الله لا أعذبكما بعد بحملي مرة أخرى لأني سأخرج من القبر ماشية ".
وبينما أنا أصلي أمام الضريح الصلاة العامة التي يرددها المرضى هناك بالتوسل والدموع والإيمان الحي متحدين ومصلين لأجل بعضنا بعضاً، وكان نظري إذ ذاك شاخصاً إلى بلاطة الضريح، وإذا بي أرى اسم الأب شربل المحفور على هذه البلاطة مكللاً بالعرق وكانت نقاط الماء عليه تتلألأ تلألؤاً، فلم أصدق نظري في الأول، فأردت أن أتحقق، فتوكأت على كرسي من جهة ومن جهة ثانية على الحائط وتفرست ملياً فتحققت عندئذٍ ما رأيته وأخذت حالاً منديلاً من جيبي وقلت في نفسي: " إنَّ نقط الماء هذه تخصني وهذه هديةى الأب شربل إليَّ فسأنهذ وأمسحها بمنديلي وأمدُّ بها موضع الوجع " فمسحت هذه النقط فتبلل منها منديلي وأجريت ما قصدته من مسح مكان آلامي بها، ونهضت حالاً على رجليَّ بحضور رفيقاتي الراهبات والجمهور الموجود على الضريح من مرضى وأصحّاء ومشيت، فعندئذٍ بُدىء بالزغردة وقرع الأجراس ابتهاجاً بشفائي وشكراً لله.
ولما خرجت عن القبر لحق بي كل الناس هناك متعجبين من شفائي وممجدين الله. ومن بين هذه الجماهير الغفيرة تقدّم إليَّ السيد ميشيل السروجي من زحلة الذي كانت عقد عموده الفقري مصابة بعطب وشُفي بشفاعة الأب شربل والذي يخدم الآن في دير عنايا، ورفعني على يديه وصاح أمام هذه الجماهير: " انظروا الحامل والمحمول، والويل لمن ليس عنده إيمان ".
دخلنا كنيسة الدير وحضرنا الاحتفال بزياح القربان المقدّس، وكان بين الحاضرين خمسة من الرهبان اليسوعيين: " الأب كابيلو والأب كونسكي مدير جامعة القديس يوسف والأب بشير آجيا والأخ يوسف ماهر والأخ فيليب، فصعد الأب آجيا درجة المذبح وألقى على مسامع الجمهور كلمة وجيزة قصَّ فيها كيفية مرضي وشكر الله تعالى على أعجوبة شفائي بشفاعة الأب شربل داعياً الشعب إلى التمسّك بالدين. وبعد نهاية الطواف بالقربان المقدّس الذي استمر نحواً من ساعتين، طلب مني الدكتور يوسف فرحات طبيب الصحية الذي كان هناك أن أعطيه تقريري ففعلت.
ومما يقضي بالعجب: أني خرجت من دير بكفيا إلى دير عنايا الساعة العاشرة إلا ثلث من يوم الثلاثاء كما مر، وحدثت أعجوبة شفائي يوم الأربعاء 12 تموز في نفس هذه الساعة، أعني الساعة العاشرة إلا ثلث. وعند المساء صعدت إلى محبسة الدير ماشية المسافة التي لا تصلها السيارة ورقدت تلك الليلة هناك وتناولت طعام العشاء في المكان الذي كان يتناول فيه أكله الأب شربل الحبيس.
ولما نهضت عن القبر ماشية كان بقربي من جمهور المرضى رجل من أبناء الشيعة، فصرخ بأعلى صوته قائلاً:" أريد أن أعتنق الدين المسيحي، وتقدَّم مني رجل آخر مصري مبتلى بالصمم وقال لي:" إنك أعطيتني الإيمان، أتيت من مصر لأُشفى من الصمم، فأعطاني ربي البصر للنفس".