من فترة قريبة جداً كان لي شرف قراءة رواية ذاكرة الجسد للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، بطل الرواية رجل في الخمسين من عمره، جزائري، من الثوار، فقد ذراعه ويعيش في فرنسا بعد الاستقلال، ومتفرغ للرسم.
يتعرف على صبية تصغره بخمس وعشرين سنة، في أحد معارضه بباريس، ويتبين فيما بعد أنها ابنة رفيقه وقائده في الثورة، لتنشئ بينهما قصة حب محرمة. هو يرى فيها الوطن النقي الذي ناضل لأجله وفقد ذراعه ليستقل وهرب منه لأنه لم يتقبل واقعه الجديد، ليجده متجسداً في غربته والأم التي غادرته في طفولته، والتي هرب إليها عندما التحق بالثورة لعله يجد في حنان الوطن بديلاً عن حنان الأم والعائلة التي لم يحظَ بالتمتع بهما، والمدينة التي أقام فيها، والتي تخبئ كأي امرأة شرقية عاطفتها وجنونها تحت ألف ستر وخمار، وهي وجدت فيه الأب الشهيد؛ الذي لم تره، المتمسك بخيال أفلاطوني لم يجد معه الوقت الكافي لبناء عائلة حقيقية، والذي أعطى الوطن كل ما لديه، وعندما آن أوان الرد أدار ظهره بعنفوان، ووجدت فيه الرسام المجنون العاشق الذي لا يهوى إلا على طريقته، ولا يعبر إلا بجنون.
وبغض النظر عن رأيي الشخصي بالرواية، إلا أن الكاتبة استطاعت توصيف المشاعر الإنسانية التي مر بها ذلك البطل بشكل أكثر من صادق، لدرجة أن بعض النقاد اتهموا شاعرنا الكبير نزار قباني أنه هو من كتب هذه الرواية، وكأن مشاعر الرجل لا يستطيع سواه أن ينقلها، أو أنها نوع من صرخة العنفوان بأن المرأة الشرقية المنغلقة دوماً على ذاتها النرجسية، لا تستطيع إدراك مشاعر غيرها، فكيف بالتعبير عن مشاعر الرجال، هي التي لا تستطيع حتى التعبير عن مشاعرها، والمتمتعة بذلك _البرود الأنثوي الشرقي الوراثي_والذي يعتبر البلادة العاطفية جزئاً من المركب الأصيل للفتاة.
ولكن كرؤية شخصية أرى بأن الترجمان الحقيقي للعواطف هو الأنثى، لأنها تنطلق إلى الآخر من خلال ذاتها، وإدراك العواطف يحتاج إلى نظرة وجدانية وليس نظرة موضوعية، فأنت لا تدرك أن فلان حزين كما تقرأ وصفة دواء أو تعليمات استخدام جهاز إلكتروني، وإنما تدرك حزنه من خلال مشاطرته جزءاً من هذا الحزن، ومن خلال وضع ذاتك مكانه، وتخيل مقدار الألم الذي يمر عليه، هذه النظرة المنطلقة للآخر عبر الذات هي التي تميز الأنثى، وهي التي تؤهلها لأن تقول إني أفهمك تماماً، وبالتالي فهي الأجدر بوصف المشاعر والأحاسيس الحقيقية، لأنها تعيشها مع كل وصف.
هنالك فرق بين من يتصرف بإنسانية ومن تخلق الإنسانية الأنثى هي حالة إنسانية مستمرة تتعاطى مع الأحداث من خلال الإنسان الموجود في داخلها، أوليست هي من توجد الإنسان في النهاية، أوليست هي منبع الإنسانية.
إذاً نعمة خلق الحياة هي التي تؤهلها لتدرك قيمة الإنسان الحقيقية، وتنطلق منه باتجاه الواقع، هنالك فرق بين من يصنع الجمال، ومن تخلق الجمال.. إنه يصنع الجمال كأي مهمة أخرى يرتب الألوان والأثاث وفق التسلسل المنطقي وتدرج الألوان والاستخدامات، أما هي فتخلق الجمال من خلال إدراك الوضعية الأجمل والأكثر راحةً للجميع والتفاصيل التي قد لا تلحظها ولكنها تشكل وصفة الجمال السرية، هذا هو الحضور الأنثوي الحقيقي، ولذلك وجبات المطاعم أنيقة مرتبة شهية أما وجباتها فهي الطعام هذا ما تدعوه الجدات النفس على الأكل.
ولكن الشرق الخائف دوماً من عواطفه ومن جنونه ومن ذاته والذي يعتبر أن الدموع عار الرجال، والرقة والرحمة أكبر طعنة للفحولة، ظل دوماً يخشى من الأنثى القابعة في زوايا عقله المهجورة، لقد حطم عشتار بهستيرية البربر، وداس جميع المقدسات الإنسانية في قلبه، وأضرم في جميع معابد الإنسانية النار، وطفق يرقص بهستيريا على صوت الطبول والنواح، ودفن الأنثى بخمار الخوف والنسيان.
هذا الشرق الذي ألف الحروب في توراته، وفرح بإله يغرق جيوش فرعون ويبيد كنعان، هذا الشرق سرعان ما حن إلى أمه بعد أن فرغ من جنونه الوحشي، والتجأ إلى الأوابد التي بالأمس كان يتعبد فيها لتنجب له إله الرحمة والمصالحة والإنسانية، ولكن الشرق أعدمه مصلوباً كأي كافر مارق مجرم، مشهراً بمسامحته للزانية، وإنكاره العبودية للسبت، لأن الشرق ظل خائفاً من إنسانيته ومن الأنثى التي تتربص له في داخله، ولكن سرعان ما مزقت الأنثى حجاب النقصان، وحطمت تابوت الخطيئة الأولى، لتصعد إلى العرش السماوي. لم تدخله عنوة ولم تخرج عليه بالعصي والسيوف في ظلماء الليل، وإنما استعادة مكانتها في ذلك العرش بمنتهى الرقة والوضوح والقداسة مع قيامة ابنها ورأب الصدع وتأليه الإنسان بالولادة الجديدة. فكما أن التجسد كان بالأنثى، كذلك كان التأله مع الأنثى، ولنتوجه لها بالسلام وقت ما نشاء ولتكون صلاة الأنثى السماوية هي السلام ولا شيء سوى السلام.
الإنسانية عاطفة والأنثى هي ترجمان العاطفة ومنبع الإنسانية، فلتتجلى الأنثى بكامل عواطفها، ولتشرق على الإنسانية بضيائها، ليظهر لونها الحقيقي، ولينفث هذا البركان حممه قبل أن تتجمد في داخله ويضحي جبلاً أصماً بارداً، ويفقد الشرق دفئه، وتعجز الشمس من أن تولد من ربوعه في كل يوم لتضئ على الأشرار والأخيار.